حجيبة بومسمار
كثبان ذهبية كثيرة و أعشاب مستوطنة في الصحراء كالطلح و ام ركبة و السدر؛ و و في كل مرة قطيع مهيب من الإبل يقطع علينا السير و هو أ حق بالمرور في صحرائه و الأغنام هنا و هناك ترعى باحثة عن الكلأ، صوت الرياح يكسو المكان ما يقطعه إلا رغاء و ثواج القطيع؛ أو صوت سيارة الفريق و الذي خاض تجربة زيارة البدو الرحل في اليوم الثاني من يناير؛ وبالتحديد زيارة الرحل الذين نصبوا خيامهم بجماعة بير أنزران التي تبعد ب134 كيلومتر عن جماعة الداخلة؛ وذلك ضمن برنامج ‘التخطيط التشاركي وتفعيل المبادرات المجتمعية بجهة الداخلة واد الذهب’ الممول من طرف مبادرة الشراكة الامريكية –الشرق الأوسط، الذي يهدف لإشراك 150 فاعل وفاعلة من المجتمع المدني وأصحاب المصلحة المتعددين؛ و خلق بيئة تفاعلية بينهم للعمل على تفعيل المبادرات المحلية ذات الأولوية لسكان جهة الداخلة واد الذهب
يقولون إستمتع بالرحلة قبل الوجهة حقيقة كليهما كان ممتعا وسط الصحراء، الطريق الوعرة التي احتاجت لمرشد ليدُلنا على الخيمة المقصودة؛ و الذي نشأ في البادية عقود من الزمن، فالطريق كانت رائعة و الوجهة أروع بسكانها
لازلنا على الطرق الرئيسة؛ وإذ بقطيع مَهيب من الإبل يقطع الطريق و من الجِمال من لم يهتم لمرورنا حتى-كان منهمكا في الأكل وقتها- وبعدها لم نعد نسير على الطريق العادي ، بل دخلنا جوف الصحراء ، أمضينا قرابة الأربع ساعات بالسيارة لإيجاد العائلة المستضيفة
ظهرا وصلنا الخيمة ، فوجدنا ممثلي أربعة عائلات من البدو الرحل؛ الذين اتخذوا بير انزاران محطة لهم في هذه الفترة ؛حيث اجتمعوا في خيمة السيد المامون هذا الرجل الخمسيني المنشغل بأحوال البدو الرحل و المهتم بشؤونهم، استقبال و ترحاب كبير من الحاضرين، كؤوس الشاي الساخن المميز برائحته و لونه وطبعا شكله؛ الذي نصفه سائل و نصفه الآخر ‘رغوة بيضاء’ و هي علامة للشاي الممتاز
تبادل الفريق أطراف الحديث و شارك مع الحاضرين برنامج المؤسسة بشراكة مبادرة الشراكة الامريكية –الشرق الأوسط ؛ علاوة على رؤية و توقعات الفريق من البرنامج، خاصة مع الرحل كفئة مستهدفة بالإضافة لمشاركي و مشاركات جماعتي الداخلة وبير كندوز
المقاربة التشاركية هي وسيلة تستخدمها المؤسسة منذ تأسيسها و التي تعنى بمشاركة الكل في الحوار واتخاذ قرار معين بإجماع و إتفاق المعنيين، وهذا ما قام به الفريق مع الحاضرين و الحاضىرات؛ فعلى الأرض و ضعنا الأوراق ولأقلام لكيتب كل منهم المشروع ذو الأولوية له-فكل واحد من الحضور يمثل قبيلة معينة ويتحدث بإسم جمعية مخالفة للأخرى- فقام شاب من بينهم وقال “ورقة واحدة تكفينا جميعا، فما سأكتبه أنا هو نفسه الذي سيكتبه هذا و هذا ( مشيرا بؤصبعه على الحاضرين و الحاضىرات)، و همَّ بالكتابة و الرسم و استعمال الألوان، يتكلمون ويتناقشون وبالطبع يحتسون الشاي، الفريق مشارك أبضا معهم في الحديث، لكن الأمر الذي لفت انتباهي و لا أظن أن موقفا مثله مرَّأمامي، نظريا الحاضرون يمثلون بعض من العائلات الرحل و يمثلون جمعيات مختلفة ؛ أي أنهم في الأصل لا يعرفون بعضهم بعضا بشكل كبير، لربما التقوا مرة و مرتين قرب حاسي (بئر) ميعن؛ أو لربما ناقة واحد منهم تاهت في الصحراء فوجدها أحدهم فردها مع القطيع أو ما يسمونه ب ‘ الظوال’ -وهذا موضوع أخر جدير أن يذكر في مقال أخر مفصل ليوفى حقه- ؛ أو لربما عائلة ما ذكرت عائلة أخرى أ مام عائلة تالثة فبقي راسخا في ذهن هذه الاخيرة هذا الاسم، فالمسافة بينهم تحول دون أ ن يكون هناك تواصل و زيارات كتثرة لكن، أهدافهم واحدة و ليس فقط بشكل عام بل الغريب أنهم يتحدثون بنفس الطريقة و يذكرون التفاصيل نفسها عن مشروع واحدووحيد ألا وهو ترميم تلاثة أ بار مركزية مهمة لرحل المغرب، جلهم يمرون بصحراء الجهتين العيون الساقية الحمراء و الداخلة واد الذهب
فرغ المشاركون من تدوين و رسم ما ناقشوا؛ وبدأوا بشرحه للفريق خطوة بخطوة باللهجة الحسانية، و التي لا ألبث أن تتسنى لي فرصة تعلمها من ناطقيها و الإستماع إليهم وهم يتحدثون بها، و أول كلمة سمعتها هي “الحاسي” بمعنى (البئر) فهمتها من بعد فهي شيفرة العيش في الصحراء
و انطق نفس الشاب المبادر في الأ ول بالحديث وذكر المشاريع التي يرونها أولوية عندهم
أولا حاسي الطويرف، الذي لا يتجاوز عمقه 32 متر؛ و يضخ الماء الصالح للشرب الأمر الذي يجعل منه الحاسي ذو الاولوية؛ فهو يسد حاجة الرحل من الماء للشرب لهم و للبعيرهم؛ و هو البئر الذي يجمع هؤلاء الرحل بإخوانهم من شتى بقاع المملكة، فهو نقطة ربط بين الجهتين الداخلة واد الذهب و العيون الساقية الحمراء؛ اي رحل الجهتين يلتقون عنده و ؛بل هذه العائلة و الأخرى و الأخرى يشربون من نفس السواقي للأسف هذا الحاسي غطته الرمال وأصبح صعبا إ ستخراج الماء
حاسي فركان، يبلغ 38 متر للأسف طاقته الشمسية معطلة ، كان ماء هذا الحاسي لشرب القطيع فقط لشدة ملوحته، فالسيد المامون أ كد أ ن 95% من إبل الرحل تشرب منه
و أ خيرا حاسي اوحيفرت الذي يبلغ عمقه 64 متر تقريبا؛ و الذي يستفيد منه قرابة 33% من الرحل
قال السيد المامون “إنه لمن المؤسف حقا، أن نسمع أن هذه الآبار المهمة للرحل تأثرت سلبا بسبب التغيرات المناخية؛ التي عرفها العالم وبلادنا خصوصا في الخمس السنوات الأخيرة. مستوى المياه بالآبار انخفض بشكل كبير جدا بسبب هذه الذاريات القوية التي لا تتوقف، فلقد أتلفت الأبار حتى أصبحت حفرة مغطاة تعلوها الكثبان الرملية .لا تدري حقا، هل المياه الصاعدة من البئر تكفي لسد حاجيات الخيمة و للعائلة؛ أو البعير أو ماذا؟ ” أضاف قائلا “لم يعد الرجل منا قادر على إزالة الرمال من البئر لوحده؛ فالأمر يحتاج لآليات ووسائل مخصصة؛ يجب ترميم هذه الابار التي ذكرت؛ وتعميقها؛ و تجهيزها وذلك بتزويدها بالطاقة الشمسية و المضخة والأنابيب؛ وبناء خزان الماء لضمان توفر الماء دائما ، و للبعير حق كذلك فنحتاج بناء سواقي بجوار الئر
بعد كلام السيد المامون أتمم الشاب حديثه بسؤال استنكاري قائلا: “لماذا أجمعنا على حاسي الطويرف بأنه الأهم من بينهم؟ لأنه يضخ الماء الشروب لنا وللبعير أيضا؛ علاوة على ان اغلبية او جل الرحل تمر عليه . إختتم قائلا “يحتاج هذا البئر أ ن يرمم في أسرع وقت أ ي قبل فصل الصيف هذا
ترميم الابار هي المشاريع الحالية ذات الأولوية للبدو الرحل بجماعة بير أنزاران
أذكر جيدا أنني أخذت قلما أحمر اللون لضرورة الموقف- فرسمت مثلتا كتبت عليه (الأهم بالإجماع) وهذه الجملة القصيرة جاءت علي لسانهم جميعا . ذكر أحد الحاضرين مشروع الجريفية الذي تم إنجازه سنة 2017 من طرف المؤسسة بشراكة مع شركة الطاقات المتجددة ؛ أثنوا عليه كثيرا و اعتبروه مشروع متكامل؛ لأنه يسد حاجياتهم من الماء الشروب و سقيا للقطيع. مشروع الجريفية هذا تم فيه بناء قناة -سواقي للبعير- طولها 520 متر و كذلك توفير الماء الشروب بمضخات ومحركات لكل من قبيلتي أهل الطريح وخطوط حبية بالاضافة إلى تركيب اربع الواح شمسية لآبار أهل الطريح وخطوط حبية، أمة صفيا و الجريفية. قال السيد المامون ‘نحن متحمسون للاشتغال على مثل هذه المشاريع بالمنطقة
صهريج ماء-مشروع الجريفية
أخدت الورشة و النقاش جهدا يسيرا من الجميع فأحضرت سيدة الخيمة وجبة الغذاء المميز برائحته؛ فكانت أحد الوجبات التقليدية المعروفة عند أهل البادية؛ لحم وقليل من الماء ويطهى على الفحم بدون توابل أو أي أعشاب منسمة؛ وبعدها كأس شاي أخير قبل المغادرة (للإشارة فقط كؤوس الشاي لم تتوقف منذ دخولنا الخيمة)
في طريق العودة رافقنا سيد الخيمة بسيارته؛ ليطمئن أننا وجدنا طريق الرجوع فأكيد رجع بنا من مكان آخر كان أيسر مقارنة بطريق المجيء. في الطريق التقينا السيد السالك تابعا قطيعه من الإبل، لا يعرفه السيد المامون -ولا نحن كذلك- توقفنا و شاركناه شرب اللبن في انتظار تحضير الشاي
لم أتردد في سؤال السيد السالك عن أحواله؛ ومعيشته في الصحراء فقال “كبرت إبن الصحراء أعرف جيدا كيف أعيش مع أسرتي هنا لا أتيه بين كثبانها، حقيقة لا أتخيل أنني أترك البادية و أعيش بالمدينة. لا أستطيع أن أترك هذه الإبل والغنم والخيمة.بعد و فاتي الوالد كنت الأكبر وسط إخوتي؛ و كان عيشنا علي رعي الإبل و الغنم؛ فلم يكن مني إلا أن أحمل مسؤولية العائلة و لا أضيع ما عاش و مات عليه أبي وهو الرعي والترحال؛ فلطالما رافقته لشهور عدة للرعي؛ و خضت معه تجارب كثيرة في الصحراء و أيت العجاب من الصحراء ؛ و الإبل ؛ و الحياة البدوية. حقيقة يغبط هذا الرجل على تجاربه و تمكنه من العيش في الصحراء . هنا تذكرت موقفي الذي لا أحسد فلا أخفيكم أنني لم أميز ولو لمرة واحدة اليمين عن الشمال ؛ أو الأمام عن الخلف ؛ فوقنا السماء و نمشي على الرمال وبجوارنا أشجار السدر أوالطلح أو بعض الأعشاب
السيد السالك يقطع سهوي بكلماته عن حياته في الصحراء ؛ وتشبته بحياة البدو ؛ و أنه في كل مرة يحمل متاعه لمنطقة أخرى ؛ و أن زمان و مكان التنقل لا يعرفه و لا يتحكم فيه بل الظروف المناخية هي من تفعل، ولكن الذي يعلمه هو مدى إحتياجهم للماء. الماء مجددا
يقول مضيفا و وجهه مملوء أسى، اليوم أنا أشد خوفا من سابقه على حالنا، لم أعد أدري هل تخلي عن حياة البدو سيكون الحل الأفضل أو الأسوء. لا أعلم ما إذا كانت سنوات الجفاف التي عرفنا الخمس السنوات الأخير ستزداد حدة أو سنمطر باذن الله، وهل الأبار التي تقصدها السيارة ستصلح؟ فجلها بات مغطى بالرمال و التي تحتاج للإصلاح وإعادة الترميم في أقرب وقت، إذا وجدنا مسابقة الزمن فهذا الواجب، قبل فصل الصيف، أو هل سيتم حفر أبار أخرى بدل التي جفت؟
نعاج بيضاء صغيرة، النظر إليها يجعلك تبتسم كانت شقية ، تقفز من مكان لأخر، و تلاعب صاحبها و كنها تخبره أن غروب الشمس اقترب، و يجب أن ترجع لخيمتها
قبل الوصول الي الطريق الرئيسية ب 40 دقيقة تقريبا؛ استوقفتنا خيمة السيدة النعيمة وهي إمراة أمازيغية، حديثة الترحال لهذه المنطقة رفقة زوجها و ابنائها، رغبة في إيجاد ظروف مناخية أفضل وحاسي يغطي احتياج أسرتها و بعيرها من الماء
خيمتان كبيرتان؛ أمامهم سيارة من نوع لوندروفي مقاومة للظروف؛ و للكثبان الرملية؛ والرياح التي لا تهدأ ابدا؛ فهي المساند الرسمي للرحل لجلب الماء؛ و التسوق؛ و مكافحة الظروف الصعبة؛ إضافة لوجود خزان بلاستيكي كبير الحجم يسمى الكوبة يحمل ستة عشرة طن من الماء، يستعمله الرحل لجلب الماء من الحاسي الي الخيمة و البعير، إذن هذه هي الكوبة التي كررها كثيرا الحاضرون في الورشة لكن لم أكن أتصور أنها بهذا الحجم، كما كان هناك أنواع اخرى من خزانات الماء ذات الحجم الصغير و المتوسط ما بين 10 و 50 لتر؛ قالت السيدة نعيمة بعد كل تلات أيام يجب ملأ الكوبة وخزانات الماء الأخرى وهكذا دواليك. الحياة صعيبة هنا اليس كذلك؟ إنها أقدار؛ قالت السيدة مع ابتسامة عفوية
لم تتركنا السيدة نعيمة نغادر الخيمة؛ فلابد أن نحتسي ولو كأس من الشاي معهم. كان مستحيلا إقناعها بأنه لم يعد لدينا متسع من الوقت للشاي؛ فالشمس أشرفت على الغروب و يجب أن نغادر، فقالت مبتسمة جميل؛ إذن تبيتون عندنا الليلة. بيني وبين نفسي؛ أعتقد أنني أحببت هذا العرض؛ تجربة المبيت في الخيمة -فهم يخلدون للنوم بعد صلاة العشاء مباشرة ؛ لا شبكة إتصال إذن لا هاتف- لكن لمن يكن ممكن قبول عرض السيدة نعيمة فغادرنا مباشرة بإتجاه الطريق الرئيسية، و إنتهى هذا اليوم الذي يحمل بين طياته نمط عيش البدو الرحل، المتشبتين بالحياة الأ صلية البسيطة ؛ و الترحال من مكان لأخر.لقد رأ يت إيثار وكرم فريد في خيام متفرقة.
خلاصتها أن الحاسي هو شيفرة البدو الرحل للعيش في الصحراء و السبيل الوحيد للحفاظ على هذا الجزء الذي لا يتجزأ من هويتنا. أظن أننا رأينا و سمعنا الكثير من الرحل وها نحن جربنا يوما وسط الصحراء، لكن لازال هناك أسئلة تشغل تفكيري بخصوص حياة البدو الرحل، ماذا لو أن التغيرات المناخية وآثارها السلبية بدأت تتفاقم أكثر فأكثر؟ ماذا سيفعل هؤلاء الناس؟ ماذا إذا ما أصبح نمط العيش هذا،فقط ذاكرة في الكتب تروى للأجيال الآتية